الكتابة الإبداعية(2)


أدوات الكاتب اللغوية
بقلم الدكتورة فاطمة البريكي
كنت قد بدأت مقالتي السابقة عن الكتابة الإبداعية بنص منقول عن ابن قتيبة الدينوري، المتوفي عام (276)، وأكررها هنا لتكون أمام عين القارئ مرة أخرى: “ينبغي أن تعلم أن الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات جَمّة، وآلات كثيرة، من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ، وإصابة المعاني، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلّة، وغير ذلك مما ليس ها هنا موضع ذكره وشرحه، لأننا إنما عملنا هذا الكتاب لمن استكمل هذه اللآلات كلها، وبقي عليه المعرفة بصنعة الكلام، وهي أصعبها وأشدها”. (كتاب الصناعتين، ص140)
وإذا كانت المقالة السابقة قد تحدثت عن الأدوات المعرفية التي يحتاجها الكاتب، فإن هذه المقالة تتمة لها، وسأتحدث فيها عن الأدوات اللغوية التي لا يستغني عنها أي كاتب، مما ورد عند ابن قتيبة في كتابه، وعند غيره من النقاد والأدباء العرب القدماء أيضًا، وهذه بعضها:
- معرفة علوم اللغة.
- فهم الإعراب.
- معرفة مذاهب العرب في الأدب.
- المناسبة بين المعاني والألفاظ.
- تجنب سَفْساف الكلام وسخيف اللفظ، والمعاني المستبردة، والتشبيهات الكاذبة، والإشارات المجهولة، والأوصاف البعيدة، والعبارات الغثة. (عيار الشعر، ص10)
- العناية بجودة المعنى، وجزالة اللفظ.
إضافة إلى الكثير من الأدوات التي أشار إليها قدامة بن جعفر على سبيل المثال، وذكر أن منزلة الشاعر بين الشعراء تتحدد بحسب تجويده وإتقانه في صنعته.
وقد تحدث القاضي الجرجاني بدقة الأدوات العامة التي يحتاجها الأديب ولخّصها في أربعة، هي:
- الطبع، أو الموهبة.
- الرواية، وربطها بالحفظ.
- الذكاء، وحسن التعامل مع الألفاظ والمعاني.
- الدُّرْبة، أي الممارسة.
وعلّق قائلًا: “فمن اجتمعت له هذه الخصال فهو المحسن المَبرِّز، وبقدر نصيبه منها تكون مرتبته من الإحسان”. (الوساطة، ص15)
ربما يتوقع القارئ أن يجد هنا أقوالًا لبعض الأدباء والنقاد المعاصرين، وهذا أمر طبيعي، لأنهم أدرى وأعلم بواقع الأدب والكتابة الإبداعية في العصر الحالي، لكني أعرف أن أقوالهم وآراء الكثيرين منهم متاحة على الكثير من المواقع، وبمكن الحصول عليها من خلال الكتب الحديثة التي يؤلفونها بأنفسهم حول الكتابة الإبداعية، أو التي تقدم حوارات معهم، أو مقالات تتحدث عنهم وعن تجاربهم وطقوسهم في الكتابة. ويمكن الوصول إلى هذه الكتب بالعودة لأي مرجع حديث يتناول الكتابة الإبداعية، والاطلاع على قائمة المراجع في نهايته.
أما ما قاله النقاد العرب القدماء حول هذا الموضوع فلا يمكن أن نجده إلا بالعودة للمصادر التراثية القديمة، وهي في معظمها مجلدات لا يعود لها إلا المتخصصون في اللغة العربية، الذين يستخدمونها في الدراسة والتدريس، أو كتابة الأبحاث أو المقالات العلمية، أو ما شابه ذلك. ومن النادر أن يعود لها عامة الناس الذين لا يعرف بعضهم.. ربما.. عناوينها أو أسماء مؤلفيها!
وهؤلاء النقاد الذين نقلتُ عنهم حديثهم حول الأدب والكتابة، وكلامهم على الأدوات المعرفية واللغوية التي يحتاجها الكاتب هم من النقاد الأدباء، أي أصحاب التجارب في كتابة الأدب، سواء الشعر أو الخطب، أي أنهم مارسوا الكتابة الإبداعية، وشعروا بمعاناة الإبداع، وعرفوا المراحل التي تمثلها، لذلك استطاعوا أن يتحدثوا عنها بهذا التفصيل، وأن يضعوها بين يدي القارئ حتى تكون دليلًا هاديًا يساعدهم في التعبير عن أفكارهم بصياغة أدبية مناسبة، وفق هذه الضوابط التي أرادوا من خلالها توجيه الكاتب لتقديم أفضل ما عنده، بدلًا من الرضا بتقديم نصوص سطحية خالية من القيمة المعرفية، لا تضيف لسامعها أو قارئها معلومة جديدة، أو فكرة ملهمة، وهذا ما يحدث مع الكثير من النصوص التي يشعر المتلقي بأنها عبارة عن كلام مجموع مع بعضه، أو أنها تكرر ما قيل في نصوص سابقة، بما يشي بعجز كاتبها عن الإتيان بجديد، أو بتجاوز ما قد قيل في هذا الموضوع من قبل.
إنها دعوة للعودة للأصول، ولمعرفة الكنوز التي تضمها المكتبة العربية التراثية، كي ندرك حجم ما أسهم به العقل العربي منذ أكثر من ألف سنة، ونفخر به، ونبني عليه.
أما فيما يتعلق بالأدوات اللغوية، فهي كلها تستند على وجود الموهبة، وإن لم تكن الموهبة موجودة فلا قيمة لكل الأدوات اللغوية الأخرى، والأدوات المعرفية أيضًا، إذ يمكن أن يكون الشخص متحدثًا جيدًا، أو عالمًا في اللغة، أو التاريخ، أو الأنساب، أو يمكنه أن يبدع في مجالات أخرى استنادًا لما لديه من معلومات ومعارف، لكنه لن يكون كاتبًا أديبًا بكل تلك الحصيلة المعرفية إن لم تكن الموهبة موجودة، أو ما يُسمى بالطبع بحسب تعبير الأوائل.