الألعاب الأولمبية والكتابة الإبداعية

منصة زدني التعليمية

شعار الألعاب الأولمبية، والكتابة الإبداعية

الكتابة الإبداعية من وجهة نظر أولمبية

بقلم الدكتورة: فاطمة البريكي

 

أود أن أبدأ مقالتي هذه بالتوقف عند شعار الألعاب الأولمبية التي انطلقت في باريس 24 يوليو، 2024، واستمرت حتى 11 أغسطس، 2024.

 

 

يُقال أن ألوان حلقات هذا الشعار الخمسة، مع الخلفية البيضاء تتضمن ألوان جميع الأعلام في العالم، وهو الشعار العالمي المعتمد منذ مطلع القرن العشرين، حين صممه بيير دي كوبرتان عام (1912م)، ليرمز بألوانه الخمسة إلى كل قارات العالم بمختلف دولها وشعوبها، للدلالة على أن الجميع مرحب به في هذه الفعالية التي تهدف لجمع العالم تحت مظلة الرياضة التي تجمعنا بوصفنا بشرًا، بغض النظر عن أي اعتبارات أخرى.

 

شعار الألعاب الأولمبية وتوزيع القارات الخمسة

 

إن غياب أي قارة من قارات العالم يعني غياب عنصر أصيل من البنية الكلية التي تشكلها كلمة “العالم”، وسيجعل الفعالية الرياضية ناقصة، وستبدو وكأنها عرجاء، أو صمّاء، أو بكماء.. لن تكون كُلًّا متكاملًا كما هي في حضور جميع الناس من مختلف القارات. وستغيب رسالة السلام التي يسعى اللون الأبيض في خلفية القارات لتقديمها وتعزيزها بين سكان هذه القارات الجارات.

***

لكن ما علاقة كل هذا بالكتابة الإبداعية؟

في الحقيقة، لا يمكنني وأنا أنظر إلى هذا الشعار ألا أستحضر الكتابة الإبداعية؛ فالشعار -شكليًا- يمثّل معنى كلمة (السرد) ثمثيلًا حرفيًّا، كما هي في أصلها اللغوي؛ فالسَّرد هو تداخل حلقات الدِّرْع مع بعضها، وتماسكها، ومن هنا جاء قوله -عز وجل- لسيدنا داوود -عليه السلام-: {أن اعملْ سابغاتٍ، وقَدِّرْ في السَّرْد}، أي: اصنع دروعًا تامة مكتملة، بحيث تُحْكم ضمّ حلقاتها ببعضها فتكون أقوى وأفضل من الصفائح التي كان المحاربون يستخدمونها في الدفاع عن أنفسهم وقت الحروب، ووازن في حجم الحلقات ووزنها بحيث لا تكون خفيفة فتتفلّت بسرعة ويتفكك الدرع، ولا ثقيلة فتعيق حركة الذي يلبسها كما كانت الصفائح قبل ذلك.

إن هذا التداخل بين الحلقات ليتماسك المنتج النهائي (الدرع)، من حسن تقدير حجمها ووزنها بما يتناسب مع المنتج النهائي والهدف منه، ينطبق تمامًا على عناصر السرد التي يجب أن تتماسك مع بعضها ليكون المنتج النهائي (النص السردي) قويًا ومتماسكًا، وحسن العناية بحضور كل عنصر منها يساعد في تحقيق الهدف في النص السردي أيضًا.

وهذا يقودنا للكلام على العناصر السردية التي تكون النص القصصي أو الروائي..

انظروا إلى تعدد الحلقات وجمال ألوانها، وإلى تماسكها وارتباط كل حلقة بغيرها، فلا فكاك لأي حلقة من الأخرى. الأمر نفسه ينطبق على العناصر السردية، فلو تخيلنا كل حلقة تعبر عن عنصر من العناصر السردية، كما يلي:

 

 

ألن تكون الفكرة ذاتها متحققة كما تحققت في الشعار الأولمبي ولكن على نحو مختلف: أدبي سردي جميل؟؟

ألن يظهر ارتباط كل عنصر بالآخر -أو الآخرين- على نحو بصري واضح لا يخطئه أحد؟

لكنني أريد أن أذهب خطوة للأمام، وأستبدل بالأبيض اللون الأسود، حتى نسوّد بياض الصفحات بحروفنا، وآرائنا، وأفكارنا، فاللون الأبيض مخيف للكاتب، مخيف على المستوى المادي الملموس إذ يشعر الكثير من الكُتّاب برهبة أمام بياض الصفحة قل بدء الكتابة، وكذلك حين يعصف بالكاتب ما يُسمى بقفلة الكتابة، وتستعصي الأفكار على التحول لنصوص مكتوبة على الورقة البيضاء.

كما أنه مخيف على المستوى المجازي، لأنه قد يعني انعدام القيمة، وتساوي وجود النص بعدمه.

لذلك، أرغب في تحويل البياض في الخلفية إلى سواد، وأن أحول لون الكلام المكتوب إلى اللون الذهبي، حتى نطرّز الفكر بخيوط من التبر، وهذا ما يجب أن يسعى إليه كل كاتب في نظري، أن يتعب في نصه حتى يشعر هو قبل غيره بأنه ينمنمه بخيوط الذهب.

وبهذه الطريقة، يصبح شعار الأولمبياد الإبداعي عندي هكذا:

 

 

تنويه بسيط بخصوص اللون الأسود

السواد في الخلفية رمز للفعل، والفكر، واللغة، والمنتج الذي سيظهر بعد عناية الكاتب بكل عنصر من العناصر المذكورة أعلاه. وأي خلل في أي عنصر سينتج عنه خلل في لون هذا السواد، فلن يكون بهذه الدرجة من القوة والإشباع، فقد يأتي رماديًا أو فحميًا، أو غير ذلك مما يُسمى “ظلال الأسود”، وربما يأتي أبيض للأسف، إن لم يعتن الكاتب بأي عنصر من العناصر.

***

الذي أريد أن أقوله من خلال المقالة، وهذا الإسقاط على شعار الألعاب الأولمبية التي انتهت دورتها الأخيرة لتوّها، وستعود لنا مرة أخرى بعد أربع سنوات قادمة -بإذن الله-، هو أننا نستطيع دائمًا أن ننظر للحياة بمنظار الأدب، أو أن ننظر للأدب من منظار الحياة، وأن نراه في كل ما حولنا، حتى إن بدا للعامة منفصلا عنه جدًا، وبعيدًا جدًا، وغريبًا جدًا..

نحن -معشر الكُتّاب- فقط بإمكاننا أن نرى تلك العلاقات، وأن نستشعرها بقلوبنا قبل عيوننا، وأن نجعلها طريقتنا في التفكير في تحسين كتاباتنا.

ففي الخلوة الأدبية التي بدأت قبل يومين في الشارقة، بتنظيم من مجموعة كلمات، ورعاية وزارة الثقافة في الإمارات، كان من المهم بالنسبة لي -بصفتي المدرب الرئيسي فيها- أن أضمّن جدول الأنشطة فعاليات تبدو بعيدة عن عالم الكتابة، من قبيل الطبخ، والزراعة، أو حتى صناعة العطور أو الصابون أو غير ذلك. وحين سُئلتُ عن السبب كان الرد واضحًا، وهو أنني أرى الكتابة من أشكال الصنعة التي تتطلب ثلاثة عناصر:

  • مكونات
  • مقادير
  • خطوات

وعملية ضبط هذه العناصر الثلاثة تختلف من شخص لآخر، وهذا ما يصنع كاتبًا عبقريًا فذًّا، وكاتبًا يبقى طوال عمره مبتدئًا، يقدم نصوصًا لا يُكتب لها الخلود، وإن كُتِب لها النجاح الإعلامي لاعتبارات أخرى..

تسويقية أو اجتماعية أو غير ذلك. المهم هو ما يبقى ليُقرأ بعد عقود أو قرون، لا ما يطفو ويزيد ويحدث فرقعة ثم سرعان ما يتلاشى بعد وقت سواء طال أو قصر.

هذه العناصر الثلاثة موجودة في الطبخ، وفي الزراعة، وفي صياغة الذهب، والنحت، والنسيج، وفي غيرها من الصناعات المختلفة. وتقريب المفهوم العقلي بالتجارب المحسوسة يجعله أوضح في الذهن، وأسهل في الفهم، وهذا هو السبب الذي يجعلني أحرص على أنشطة مثل هذه في منعزل خاص بالكتابة، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى، فإن ممارسة هذه الأنشطة يُعدّ تفريجًا عن النفس، وترويحًا لها يكسر التشبع بالحروف والكلمات، ويجدد هواء اللغة المستخدمة، ويجعلها أكثر طزاجةً وطراوة..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart