أهمية الخلوة للكاتب

منصة زدني التعليمية

خلوة الكاتب للكتابة الإبداعية.

أهمية الخلوة للكاتب

بقلم الدكتورة: فاطمة البريكي

 

أعتمد في كتابة هذه المقالة على جزء من إصداري الجديد، الذي أتممت كتابته بحمد الله، ودخل طور التصميم الجرافيكي كي يخرج بأبهى صورة، وهو بعنوان (مثلثات السرد)، الذي أنوي أن يكون صندوقًا متكاملًا لأدوات الكتابة الإبداعية، وليس مجرد كتاب فقط، وكلي أمل أن يتم هذا الأمر كما أريده، وأن يظهر للنور بالشكل المخطط له، بل وأفضل بإذن الله.

في كتاب (مثلثات السرد)، كان من أبرز أهدافي -إضافة إلى هدف تقديم محتوى عملي ومميز، يقوم على قيمة محددة تربط عناصره كلها- هو تسليط الضوء على ما قدمه الأدباء العرب القدماء، وإبراز جهود النقاد القدماء خصوصًا من مارس منهم الكتابة الأدبية والشعرية تحديدًا، لأنها جهود غير معروفة إلا للمتخصصين فقط، لكن الكثيرين من غير المتخصصين يمارسون الكتابة الإبداعية، ويهتمون بتطوير أنفسهم فيها ، وربما لم تمرّ عليهم أي معلومة تتعلق بما هو موجود في المصادر الأدبية التراثية من آراء تلتقي في كثير من الأحيان بما قدمه الكُتّاب الكبار المشهورون في مجال الكتابة الإبداعية في العصر الحديث.

وقد تكلمتُ في التمهيد عن جهود النقاد العرب القدماء في تمكين الأديب، والشاعر بوجه خاص -مع أن بعضهم كان يهتم بالكتابة النثرية والشعرية، كالجاحظ، والصولي، والعسكري، وغيرهم- من حرفة الكتابة، والأدوات التي يحتاجها، وفصّلتُ القول فيها، سواء كانت أدوات معرفية أو أدوات لغوية، وقد أشرتُ إليها في المقالتين السابقتين.

بعد ذلك، وفي سياق حديثي عن العصف الذهني وطرائقه، تكلمتُ على طرق العصف الذهني عند العرب القدماء، وقد كانت “الخلوة” واحدة من أبرز الطرق التي ترددت عند عدد من الشعراء القدماء، وهذا أمر طبيعي، إذ لم يكن الشعراء العرب القدماء إلا بشرًا كغيرهم من الشعراء والأدباء، قد تصعب عليهم القصيدة، ويحتاجون إلى وسائل تسهّل عليهم الوصول إليها. وليس المقصود هنا مجرد رصف الكلمات جوار بعضها، إنما إنشاء قصيدة تتناقلها القبائل، وتتغنى بها النساء، وتتوارثها الأجيال. هذا ما كان كل شاعر يسعى إليه. وقد ذكر ابن قتيبة وجود أوقات للشعر “يسرع فيها أتيُّه (السهل)، ويسمح فيها أبيُّه (الصعب)، منها أول الليل قبل تغشي الكرى، ومنها صدر النهار قبل الغداء، ومنها يوم شرب الدواء، ومنها الخلوة في المجلس والمسير، ولهذه العلل تختلف أشعار الشاعر ورسائل المترسل”.

كما تحتفظ المصادر الأدبية بروايات لعدد من الشعراء الأمويين الذين سئلوا عما يفعلونه إذا انغلق دونهم باب الشعر، مثل ذي الرمة الذي أجاب مستنكرًا: “كيف ينقفل دوني وعندي مفتاحه؟ قيل له: وعنه سألناك، ما هو؟ قال: الخلوة بذكر الأحباب”.

ولكُثّير عزة جواب يشبه جواب ذي الرمة على السؤال ذاته، إذ أجاب قائلًا: “أطوف في الرباع المحيلة، والرياض المعشبة، فيسهل عليّ أرصنُه، ويسرع إليّ أحسنُه”.

وكذلك الفرزدق الذي “كان إذا صعبت عليه صنعة الشعر ركب ناقته، وطاف خاليًا منفردًا وحده في شعاب الجبال، وبطون الأودية، والأماكن الخربة الخالية، فيعطيه الكلام قيادة”.

ونلاحظ لجوء هؤلاء الشعراء جميعهم إلى الاختلاء بأنفسهم في الأماكن المفتوحة على اختلافها، أما جرير فقد كان يختلي بنفسه ولكن فوق سطح بيته، فقد ذكرت المصادر أن جريرًا “إذا أراد أن يؤبِّد قصيدة صنعها ليلًا: يشعل سراجه ويعتزل، وربما علا السطح وحده فاضطجع، وغطى رأسه، رغبة في الخلوة بنفسه”.

وقد يصعب على الشاعر قول بيت أحيانًا، وليست قصيدة كاملة، وقد عبّر الفرزدق عن هذه الصعوبة بقوله: “تمرّ عليّ الساعة، وقلع ضرس من أضراسي أهون عليّ من عمل بيت من الشعر”.

وقد انتشرت مؤخرًا فكرة الخلوة الأدبية، أو خلوة الكتابة الإبداعية، عربيًّا وغربيًّا، وهي عبارة عن تجمع أدبي لعدد محدود من الكُتّاب الذين سبقت لهم الكتابة ويرغبون في اقتطاع وقت من زحمة الحياة لإنجاز مشاريع كتابية عالقة، أو  الذين لم تسبق لهم ممارسة الكتابة الإبداعية، ويرغبون في حضور ورش متخصصة مع مجموعة تشاركهم الاهتمامات ذاتها، وأيًّا يكن الأمر، فإن مثل هذه التجمعات التي ينعزل الكاتب فيها عن السياق الحياتي اليومي، ويضع تركيزه في مشروعه الكتابي، تكون ذات أثر إيجابي كبير على الكُتّاب أنفسهم، وعلى المنجز الأدبي الذي سيتم رفده بعدد من النصوص التي ستكون وليدة هذه الفرصة الفريدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Shopping Cart