اعترافاتي عن طقوسي في الكتابة


الكتابة الإبداعية
بقلم الدكتورة فاطمة البريكي
إني وكل شاعر من البشر شيطانه أنثى وشيطاني ذكر
يلحّ علي هذا البيت كثيرًا الآن.. وأنا في سياق الحديث عن طقوس الكتابة..
هل قلت “طقوس“؟؟
نعم،، طقوس الكتابة،، ومفردها طقس
دعوني أستحضر معاني كلمة “طقس” المعجمية قبل الانطلاق في الحديث عن طقوسي في الكتابة..
الطقس: النظام والترتيب.
والطَقْسُ حالة الجو أو المناخ.
والجمع: طقوس.
(المعجم: المعجم الوسيط)
إذن الطقس إما النظام والترتيب، أو الحالة “المتعلقة بالجو” تحديدًا، فأي المعنيين هو المقصود هنا في قولنا “طقوس الكتابة“؟
من الطبيعي أن يكون المعنى المتعلق بالنظام أو الترتيب هو المقصود، ولكن معنى “الحالة” أو “الجو” لا بد أن يحضر في سياق الحديث عن الكتابة..
فالكتابة لا تخلو من حالات تستقر أحيانًا وتتقلب أحيانًا أخرى، كالجو تمامًا..
إذن،، نحن هنا للحديث عن نظام الكتابة وأحوالها
ماذا أكتب؟
تتنوع كتاباتي ما بين الأبحاث العلمية التخصصية، في النقد والبلاغة وفي الأدب التفاعلي، والمقالة في النقد الأدبي أو النقد الاجتماعي، وأيضًا قصص الأطفال.. والروايات: واحدة لليافغين، وأخرى للكبار حتى الآن..
لكني…
سأعترف بأني لم آتِ من وادي عبقر.. وليس لي شيطان يُذكر،، لا أنثى ولا ذكر..
أنا أكتب غالبًا ببساطة ويسر،
ويمكن أن أزعم أن معظم نصوصي جاءت كما يغرف جرير من بحر
ولكن في أحيان كثيرة أيضًا أجد أن الكتابة فعل متعسر
ليست إلى الدرجة التي كان يعاني منها الفرزدق الذي كان كمن ينحت في صخر
وقد قال هو عن نفسه: “إن خلع ضرس أهون عليّ من قول بيت من الشعر”
هي إذن حالات متفاوتة.. تسهل أحيانًا، وأحيانًا تتعثر..
والآن،،
في ضوء هذا الوضع الذي أصفه،، هل للكتابة عندي طقوس؟
ربما!!
ولكن طقوسي بسيطة جدًا،، وعامة في الوقت نفسه، فمعظمها يتعلق بما قبل الكتابة، أي كيف أعدّ نفسي للكتابة، وليس أثناء الكتابة.. كيف أكتب أو كيف أكون لحظة الكتابة..
سأتحدث عن طقوسي في الكتابة من زوايا مختلفة:
- الاستعداد للكتابة.
- مكان الكتابة.
- وقت الكتابة (الزمان).
- أدوات الكتابة.
- التدفق الإبداعي.
الاستعداد للكتابة..
فيما يتعلق باستعدادي للكتابة.. أنا أحتاج فنجانًا من القهوة حتى أبدأ ونادرًا أن يتكرر في الجلسة الواحدة. لأني حين أبتعد عن الكمبيوتر أفقد خط اتصالي بالفكرة، “كأن الشيطان يغادرني حينها”..
لكن الفنجان يجب أن يبقى على المكتب، كي يبقى عبق القهوة حاضرًا في المكان، ويمدني بالطاقة اللازمة لمواصلة الكتابة…
المكان..
أول اعترافاتي فيما يتعلق بمكان الكتابة هو أنني أكتب حين أكون خارج المنزل في الأماكن التي تختلط فيها الأصوات، مثلًا في المقاهي، وقد كتبت أطروحة الماجستير كاملة تقريبًا في جلسات متتالية في مقهى الفاروقي في منطقة الشميساني في عمّان- الأردن، وقد حصلتْ هذه الرسالة على إعجاب الدكتور الراحل إحسان عبّاس عليه رحمة الله، وقال إنه لم يُكتب في موضوعها مثلها..
أما أطروحة الدكتوراه، فقد كتبت معظمها في مريديان عمّان، حيث أدمنت هناك أمرين:
- مذاق القهوة التركية التي يقدمونها،
- وأداء عازفي الناي والبيانو اللذين كانا موجودين يوميًا في تلك الفترة.
لكن المفارقة هي أنني في المنزل لا أكتب إلا في الهدوء، وقد اعتدت الهدوء أثناء إقامتي في العين بعيدًا عن أهلي، فكانت أجواء البيت هادئة دائمًا..
ومع وجود طفلتين جميلتين، لم يكن بإمكاني -قبل بضع سنوات- أن أكتب في المنزل إلا بعد أن تناما، أو أن تذهبا مع والدهما إلى أي مكان خارج المنزل. أما الآن فقد وضعتُ على باب مكتبي من الخارج لوحة ذات لونين: أخضر (مكتوب عليه مرحبا) وأحمر (مكتوب عليه الرجاء عدم الإزعاج)، ويؤسفني أنني أستخدم اللون الأحمر معظم الأوقات!
اعتراف آخر يتعلق بالمكان، وهو أنني أحب الكتابة في الأماكن المغلقة، في الأماكن الضيقة نوعًا ما.. في المقاهي تحديدًا، ولي مقاهٍ محددة، فأنا لا أحب أي مقهى، ولا أستطيب مذاق أي قهوة..
لا أحب أن أكتب في الأماكن المفتوحة،، الاحتواء مهم جدًا بالنسبة لي،، أحب أن أشعر أن المكان يحتويني، كأنني أطمئن إلى أن فكرتي لن تذهب بعيدًا، بل ستبقى تدور حولي، وإن ابتعدت فلها حدود تصل إليها ثم تعود لي!!
لذلك أنا لا أذهب إلى البر أو البحر للكتابة، ولا إلى الحدائق.. وأنا أساسًا لا أحب هذه الأماكن، ولا أذهب إليها إلا نادرًا، وإن ذهبت لا يمكنني أن أكتب فيها!
أما حين أكون في المكتبات العامة، وقد كنت أرتادها كثيرًا -خصوصا مكتبة الجامعة، ومكتبة زايد المركزية-.. فلا أكتب، بل أجمع المواد من المصادر والمراجع، وأرتب أفكاري فقط، أي أنني أنجز ما أسميه بالكتابة التركيبية أو التجميعية، أما الكتابة بما هي فعل إنشاء وإيجاد من العدم فلا يمكن أن تحدث هناك!!
هذا بالنسبة للمكان..
الزمان (وقت الكتابة)..
أما بالنسبة للزمان، فرغم أن الكثير من النقاد العرب القدماء كان يذكر أن أفضل أوقات الكتابة هو الفجر، أو ساعات الفجر الأولى، حيث يكون الذهن أصفى، والقريحة أنقى، إلا أن هذا لم ينطبق عليّ قط!
فأنا أعترف بأني إنسانة ليلية بمعنى الكلمة، وأفضل ما كتبته في حياتي كلها كُتب مساء.. ربما أشترك في هذا مع ديستويفسكي الذي يُقال إنه كان من الكُتّاب الليليين أيضًا..
حين قرأت كتاب (نادي الخامسة صباحًا) تحمّست كثيرًا، وكنت أنام باكرًا جدًا، وأصحو قبل الخامسة بكثير، لكني لم أستمر طويلًا للأسف، إذ سرعان ما يفسد هذا النظام في أيام الإجازات، وأستغرق وقتًا طويلًا للعودة إليه..
حاليًا.. أكتب هذه السطور ولا يفصلني عن موعد آذان الفجر إلا ساعة وعشرين دقيقة تقريبًا!
أدوات الكتابة..
كذلك عليّ أن أعترف أنني أفكر بأصابع يديّ الاثنتين،، وليس بأصابع اليد اليمين فقط.. فحين أكون أمام لوحة المفاتيح ينشط ذهني بشكل كبير، وأستطيع أن أفكر وأكتب باسترسال أكبر مما لو كنت ممسكة بقلم وكراس أو أوراق..
ومنذ أن اعتدت الطباعة بسرعة على لوحة المفاتيح، أصبحت لا أكتب إلا “طباعةً”، وأصعب لحظاتي هي لحظات كتابة إهداء لأي من كتبي لشخص ما،، خصوصًا إن كان شخصًا عزيزًا عليّ، لأنني أحتاج إلى أن أكتب له إهداء مميزًا، وليس مجرد إهداء رسمي، وكثيرًا ما كنت أتمنى لو أننا نستطيع طباعة إهداءات كتبنا بدلًا من كتابتها بخط اليد، لأنني متأكدة أنها ستكون أجمل وأكثر إبداعًا!
ومع ذلك، فأنا لا أستغني عن الكراسات والكشاكيل والمنظمات وكل أشكال الورق، ولا أتخلص مما استخدمتُه منها ونفذت صفحاته الفارغة، فلي عودة إليها دائمًا، لأنها كثيرًا ما تكون حبلي بأفكار نصوص، وأحيانًا بمسودات نصوص جاءت على عجل، ولم يسمح الوقت بالكتابة طباعةً..
التدفق الإبداعي..
أقصد بالتدفق الإبداعي لحظة الكتابة الأولى،، وهي أهم لحظة بالنسبة لي، فمن الصعب على أي كاتب أن يجلس للكتابة إن لم يشعر أن نصه اكتمل تشكله، وصار جاهزًا ليخرج من الذهن إلى الورق، ليتحول من فكرة تدور في الرأس إلى سطور بين دفتي كتاب..
بالنسبة لي كثيرًا ما أكتب النصوص دفعة واحدة.. خصوصًا نصوص الأطفال، حيث تأتي الفكرة وتتشكل في جمل جاهزة أو شبه جاهزة في ذهني، وحينها يبقى فقط أن أفرغها على لوحة المفاتيح.
أما في أعمالي البحثية فالأمر يختلف، إذ تتوقف العملية كلها على إيجاد الفكرة البحثية الجديدة والمتميزة.
سأعترف أنني أفكر كثيرًا،، وأفكر وأنا أقود السيارة، وأنا أجلس مع أهلي أو عائلتي الصغيرة، أفكر وأنا أتبضع للمنزل، وأنا أعدّ القهوة، لكن في لحظة من اللحظات، التي لا أعرفها ولكنها تحدث في كل مرة تأتي الفكرة فجأة، وعليّ في الوقت نفسه أن أكتبها، أن أوثقها، أن أحفظها إلى الأبد، وإلا طارت إلى الأبد أيضًا!!!
وأخيرًا،،
وبعد كل ما ذكرتُه عن طقوسي في الكتابة.. سأعترف أيضًا بأنه ليس المهم بالنسبة لي ما يحدث قبل الكتابة، أو أثناءها أو بعدها،، فأنا -في هذا العمر- لا أكتب بالطريقة نفسها التي كنت أكتب بها مقالاتي وأنا ما زلت طالبة في الجامعة،، ولا أظن أنني سأواصل الكتابة بالطريقة نفسها التي أصبحتُ بها اليوم، لكن المهم هو أن تبقى جذوة الكتابة متقدّة في الروح،.. وأن يبقى شغف تحويل الأفكار إلى نصوص وأعمال إبداعية هاجسًا لا يهدأ،، ولا يترك لي المجال كي أهدأ..
لا أنكر أن الكتابة سواء كتابة الأبحاث العلمية، أو الكتب والمقالات، أو نصوص الأطفال أخذتني كثيرًا من حياتي الاجتماعية، وحرمتني من أن أعيش كما تعيش الكثيرات من النساء على الأقل في محيطي الأسري: سهرات عائلية، مشاوير للتسوق الجماعي، تجمعات للإفطار كل مرة في مكان،، وغير ذلك، وربما أكون في نظر الكثيرات ممن أعرفهن “خسرتُ” أشياء كثيرة تبدو في نظرهن مهمة، لأنني “دفنت” نفسي في الكتب أو بينها،، لكني أؤمن أنني كسبت الكثير،، كسبتُ إخلاصي لأهدافي بخدمة اللغة العربية، والأدب العربي، ومحاولة سد ثغرة ولو بسيطة في الاحتياج الكبير للمصادر الحديثة التي تحببهما للصغار والكبار، وآمل أن أكون قد نجحتُ في ذلك..
وأؤمن أنني كسبت نفسي،، كسبت أنني عشتُ كما أردتُ دائمًا، وليس كما أراد لي الآخرون أن أعيش، وأحمد الله كثيرًا أنني رأيت الحياة يعينيّ وليس بعيون الآخرين، رأيتها من خلال سطور الكتب، وروائحها، ولون ورقها الأصفر، وعلى الرغم من أن هذا لم يكن بالأمر السهل إلا أنه تحقق ولله الحمد، وساندني في ذلك كثيرون، أهمهم والداي أطال الله في عمريهما، وزوجي، وصديقاتي، وأرجو أن تغفر لي ابنتاي سما وماريا تقصيري في واجبي تجاههما بسبب انشغالي بالكتابة عنهما، لكني أعتقد أنهما لاحقًا ستفخران بما حققته وستغفران لي بإذن الله.