الكتابة الإبداعية
الكتابة الإبداعية (1)
مصادر المعرفة
بقلم الدكتورة فاطمة البريكي
يقول ابن قتيبة (ت 276هـ) عن الأدوات التي يحتاجها الكاتب:
“ينبغي أن تعلم أن الكتابة الجيدة تحتاج إلى أدوات جَمّة، وآلات كثيرة، من معرفة العربية لتصحيح الألفاظ، وإصابة المعاني، وإلى الحساب، وعلم المساحة، والمعرفة بالأزمنة والشهور والأهلّة، وغير ذلك مما ليس ها هنا موضع ذكره وشرحه، لأننا إنما عملنا هذا الكتاب لمن استكمل هذه الآلات كلها، وبقي عليه المعرفة بصنعة الكلام، وهي أصعبها وأشدها”. (كتاب الصناعتين، ص 140)
إنه يتحدث هنا عن ثقافة الكاتب، والخلفية المعلوماتية التي يجب أن يتكئ عليها قبل أن يمسك القلم ويبدأ الكتابة، ولكنه لم يجعل الأدوات المعرفية والثقافية وحدها كافية لكي يُصنع الكاتب، إذ تُعد هذه هي الأرضية التي يؤسس عليها بنيان العملية الإبداعية، أما البنيان نفسه فقوامه “المعرفة بصنعة الكلام” بحسب تعبيره، وقد وصفها بأنها أصعب أنواع المعارف وأشدها.
ولكن كيف يحصل الكاتب على الأدوات المعرفية؟
- لا بد للكاتب أن يكون قارئًا، لأن الكتب مصدر غني وأمين للمعلومات، والأخبار، والحكايات.
- ولا بد للكاتب من أن يكون مطّلعًا على التاريخ، وعلى سير الأمم والشخصيات المهمة التي أحدثت أثرًا في التاريخ، كما يجب أن يكون مطلعًا على الحاضر، ومستشرفًا للمستقبل أيضًا.
- وتُعد مجالسة أهل الخبرة من المختصين ومن كبار السن مصدرًا لثروة معرفية هائلة، لا غنى لأي كاتب عنها.
- ومخالطة الناس عامة، أيضًا تُعد مصدرًا للخبرات والتجارب الحياتية اليومية. إنها اكتساب المعرفة من خلال عيشها، وليس بالقراءة أو السماع عنها، لأنها تصقل الشخصية، وتهذب أفعالها وردود أفعالها كذلك.
- ويُعد التحصيل الدراسي مصدرًا أساسيًا من مصادر المعرفة. ومع أنه ضروري، وإلزامي في معظم دول العالم، لكن هل يتم هذا الأمر كما ينبغي أن يتم؟
أي هل يحصل الدارسون على المعلومات التي تتناسب مع مراحلهم العمرية والدراسية فعليًا داخل الصف الدراسي، ومن خلال المناهج التعليمية؟
هذا الأمر موضع نظر..
نظريًا، يجب أن تكون الإجابة (نعم).. لكن في الواقع هناك الكثير من الطلاب الذين فقط يدرسون من أجل “إتمام” المراحل الدراسية الإلزامية، دون شغف حقيقي بالتعلم، ودون رغبة في الانتقال من طور الجهل إلى طور العلم، أو بالتعبير الشائع جدًا من ظلام الجهل إلى نور العلم والمعرفة، وهذا أمر مؤسف فعلًا، لدرجة أننا أصبحنا نطير فرحًا حين نلتقي بطالب أو طالبة لديهم رغبة داخلية حقيقية وصادقة في التعلم بكل ما تعنية الكلمة، وليس في الحضور فقط لأنه إجباري.
وهناك نموذج آخر من الطلاب الذين يهتمون بالدرجة، وهذا أمر مشروع لأن الدرجة تعكس الجهد غالبًا، لكن المزعج هو أن تُجعل الدرجة هدفًـا وغاية، فلا يهتمون إلا بالرقم المكتوب على ورقة الاختبار، أو في الشهادة، للوجاهة أمام الأسرة والزملاء والأصدقاء ربما!
تجربتي الشخصية..
شخصيًا، كنت من نوع الطلبة الذين يحرصون على الحصول على الدرجات الكاملة، أو العالية في كل المواد، وكنتُ معظم سنواتي الدراسية الأولى على صفي، وكان هذا مصدر فخر لي ولأسرتي بالفعل، لكنه كان متوافقًا مع الجهد الذي أبذله في الدراسة وفي إنجاز كل ما هو مطلوب وغير مطلوب، حتى أنني كنتُ أحفظ القصائد كاملة مع أن المطلوب هو حفظ أول عشر أبيات مثلًا، لكني كنت أستثمر كل وقتي وطاقتي في الدراسة لأنني من نوع الطلبة الذين يحبون أن يتعلموا، لذلك كنت أتوقع دائمًا أن تكون درجاتي عالية، وهذا هو الطبيعي بحسب قوانين الحياة والطبيعة.
وحين دخلتُ الجامعة لم يكن في نظامنا التعليمي تقدير (امتياز مرتفع)، لكني كنتُ أستخدمه ذاتيًا، وكنت أحزن إن لم أحرز (الامتياز المرتفع) الذي كان يبدأ عندي من (95).. وأذكر جيدًا ما كنتُ أسمعه أحيانًا من بعض الأساتذة من ضرورة عدم “اللهاث خلف الدرجات” ومثل هذه التعابير التي كنت أراها في ذلك الوقت وحتى الآن “جوفاء”، لأنها تنظر بعين ضيقة إلى الموضوع، ومن زاوية واحدة، فمثل هذا الكلام يوجه للطلبة الذين يريدون الدرجة الكاملة دون أن يبذلوا أي مجهود، وكأن الدرجات تُصطاد من الهواء، أو أن السماء تمطر درجات.
لكنه لا ينطبق عليّ وعلى الحريصين على الدراسة والتعلم، لذلك لم أخجل قط من حرصي على الحصول على الدرجة العالية، لأنني أؤمن أن الدرجة تمثل جهدي، وأنا عادة أبذل جهدًا كبيرًا في الدراسة، وفي كتابة الأبحاث والتقارير، وفي تجهيز العروض وتقديمها في القاعة أمام الأساتذة والطالبات، لذلك من الطبيعي أن أتوقع درجة تعبر عن كل ما بذلتُه من جهد، فلا يمكن أن يتساوى الذين يعملون والذين لا يعملون.
هذه المقالة هي الأولى في سلسلة مقالات ستخصص عن (الكتابة الإبداعية)، وقد تناولت فيها الأدوات المعرفية التي يحتاجها الكاتب، أو (مصادر المعرفة)، وسأكمل الحديث عن الأدوات اللغوية أو ما أطلق عليه ابن قتيبة في النص أعلاه أدوات (المعرفة بصنعة الكلام) في المقالة القادمة بإذن الله، إذ ستتناول كل مقالة موضوع (الكتابة الإبداعية) من جانب مختلف، حتى تتكون صورة واضحة عنه.